أيها النيل
أحمد شوقي - مصر
مِـنْ أَيِّ عَهـدٍ فـي القُـرَى تتَـدَفَّقُ؟ وبـأَيِّ كَـفٍّ فـي المـدائن تُغْـدِقُ؟
ومـن السـماءِ نـزلتَ أَم فُجِّـرتَ من علْيـا الجِنــان جَـداوِلاً تـتَرقرقُ؟
وبــأَيِّ عَيْــنٍ، أَم بأَيَّــة مُزْنَــةٍ أَم أَيِّ طُوفـانٍ تفيــض وتَفْهَــقُ؟
وبــأَىِّ نَــوْلٍ أَنـتَ ناسـجُ بُـرْدَةٍ للضفَّتيْـن، جَديدُهــا لا يَخــلَقُ؟
تَسْــوَدُّ دِيباجًـــا إِذا فارقتهـــا فإِذا حـضرتَ اخْـضَوْضَرَ الإِسْتَبْرَقُ
فــي كــلِّ آونــةٍ تُبـدِّل صِبغـةً عجباً، وأَنــت الصـابغُ المُتَـأَنِّقُ
أَتَت الدهـورُ عليـكَ، مَهْـدُكَ مُـتْرَعٌ وحِيـاضُكَ الشُّــرق الشـهيَّةُ دُفَّـقُ
تَسْـقِي وتُطْعِـمُ، لا إِنـاؤكَ ضـائِقٌ بـالواردين، ولا خــوانُك يَنفُــقُ
والمـاءُ تَسْــكُبُه فيُسْـبَكُ عَسْـجَدًا والأَرضُ تُغْرِقهــا فيحيــا المُغْـرَقُ
تُعيـي مَنـابِعُك العقـولَ، ويسـتوي مُتخـبِّطٌ فــي علمِهــا ومُحــقِّقُ
أَخلَقْتَ راووقَ الدهـورِ، ولـم تـزل بكَ حَمْــأَةٌ كالمسـك، لا تَـتروَّقُ
حـمراءُ فـي الأَحـواض، إِلاّ أَنهـا بيضـاءُ فـي عُنُـق الـثرى تَتـأَلَّقُ
دِيـنُ الأَوائِـل فيـك دِيـنُ مُـروءَةٍ لِـمَ لا يُؤَلَّـه مَـنْ يَقُـوتُ ويَـرزُقُ؟
لـو أَن مخلوقًــا يُؤَلَّـه لـم تكـن لِسواكَ مَرْتبــةُ الأُلوهَــةِ تَخْـلُقُ
جعلوا الهـوى لـك والوَقـارَ عبـادةً إِنَّ العبـادةَ خَشـــيةٌ وتَعلُّـــقُ
دانـوا ببحــرٍ بالمكــارِم زاخـرٍ عَـذْبِ المشــارعِ، مَـدُّهُ لا يُلْحَـقُ
مُتقيِّـد بعهـــودِه ووُعـــودِه يَجـري عـلى سَـنَنِ الوفـاءِ ويَصدُقُ
يَتقبَّــلُ الــوادي الحيــاةَ كريمـةً مــن راحَــتَيْكَ عَمِيمــةً تتــدفَّقُ
متقلِّــب الجــنبيْن فــي نَعْمائِــهِ يَعْـرَى ويُصْبَـغُ فـي نَـداك فيُـورِقُ
فيبيــتُ خِصْبًـا فـي ثَـراه ونِعْمـة ويعُمُّــه مــاءُ الحيــاةِ الموسِـقُ
وإِليك - بَعْـدَ اللـهِ - يَرجِـع تحتـه مـا جَـفَّ، أَو مـا مـات، أَو ما يَنْفُقُ
أَين الفراعنـةُ الأُلـى اسـتذرى بهـم (عيسى) و(يوسف) و(الكَلِيمُ) المصْعَقُ؟
المُــورِدونَ النــاسَ مَنْهَـلَ حكمـةٍ أَفْضَـى إِليــه الأَنبيــاءُ ليَسـتقوا
الرافعــون إِلــى الضحـى آبـاءَهم فالشمسُ أَصلُهـمُ الـوَضِيءُ المُعْرِقُ
وكأَنمــا بيـن البِــلى وقبــورِهم عهدٌ عـلى أَنْ لا مِسـاسَ، ومَـوْثِقُ
فحجـابُهم تحـت الـثرى مـن هَيْبَـةٍ كحجـابهم فـوق الـثرى لا يُخـرَقُ
بلغــوا الحقيقـةَ مِـنْ حياة علمُهـا حُجُـبٌ مُكَثَّفَــةٌ، وسِــرٌّ مُغلَــقُ
وتبيَّنـوا معنـى الوجـودِ، فلم يَـرَوْا دونَ الخـلودِ ســعادةً تَتحــقَّقُ
يَبنــون للدنيــا كمــا تَبنِـي لهم خِرَبً، غرابُ البَيْـن فيهـا يَنْعَـقُ
فقصــورُهم; كُــوخٌ، وبيـتُ بَداوةٍ وقبــورُهم; صـرْحٌ أَشَـمُّ، وجَوْسَقُ
رفعــوا لهـا مِـنْ جَـنْدَلٍ وصفائحٍ عَمَــدً، فكـانت حائطًـا لا يُنْتَـقُ
تتشــايعُ الــدَّاران فيـه: فما بـدا دُنْي، ومـا لم يَبْـدُ أُخـرى تَصْدُقُ
للمــوتِ سِــرٌّ تحتَـه، وجِـدارُه سُـورٌ على السرِّ الخـفيِّ، وخَـنْدَقُ
وكـأَنَّ مـنزلهم بأَعمــاقِ الـثرى بيـن المحلَّـةِ والمحلَّــةِ" فُنْــدُقُ
مَوْفـورةٌ تحــت الـثرى أَزْوَادُهـم رَحْب بهـم بيـن الكهـوف المُطْبِـقُ
ولِمَـنْ هيـاكلُ قـد عـلا البـاني بها بيـن الثريَّــا والــثَّرى تتنَسَّـقُ؟
منهــا المشـيَّدُ كـالبروجِ، وبعضُهـا كــالطَّوْدِ مُضطَّجِــعٌ أَشَـمُّ مُنَطَّـقُ
جُــدُدٌ كــأَوّلِ عهده، وحِيالَهـا تتقــادَمُ الأَرضُ الفضــاءُ وتَعْتُـقُ
مِــنْ كـلِّ ثقْـلٍ كـاهلُ الدُّنيـا بـه تَعِـبٌ، ووَجْـهُ الأَرضِ عنـه ضَيِّـقُ
عـال عـلى بـاع البِـلى، لا يَهتـدِي مـا يَعتــلِي منــه ومـا يَتسـلَّقُ
مُتمكِّـنٌ كـالطودِ أَصـلاً فـي الـثرى والفرعُ فـي حَـرمِ السـماءِ مُحـلِّقُ
هــي مــن بنـاءِ الظلـمِ، إِلا أَنـه يَبيَضُّ وجـهُ الظلـمِ منـه ويُشْـرِقُ
لــم يُـرْهِق الأُمَـمَ الملـوكُ بمثلهـا فخــرًا لهـم يَبْقَـى وذكـرًا يَعْبَـقُ
فُتِنَــتْ بشـطَّيْكَ العِبَـادُ، فلـم يـزل قـــاصٍ يَحُجُّهُمَ، ودانٍ يَــرْمُقُ
وتضــوَّعَتْ مِسْـكَ الدُّهـورِ، كأَنمـا فــي كــلِّ ناحيـة بَخـورٌ يُحْـرَقُ
وتقابلتْ فيهـا عـلى السُّـرُرِ الـدُّمَى مُسْــتَرْدِيات الـــذلّ لا تَتَفَنَّــقُ
عَطَلتْ، وكـان مكـانُهنّ مـن العُلى (بِلْقِيسُ) تَقْبِسُ مــن حـلاهُ وتَسْـرقُ
وعَلا عليهـن الترابُ، ولـم يكـن يَزْكُــو بِهـنّ سوى العبير ويَلبَـقُ
حُجُراتُهـا مَوْطــوءَةٌ، وسـتورُها مَهتوكـةٌ، بيــد البِــلى تَتخــرّقُ
أَوْدَى بزينتها الزمــانُ وحَلْيهــا والحســنُ بــاقٍ والشـبابُ الـرَّيِّقُ
لــو رُدَّ فِرعــونُ الغـداةَ; لراعـه أَنّ الغَـــرانيق العُــلَى لا تَنطــقُ
خـلع الزمـانُ عـلى الـورى أَيامَـه فـإِذا الضُّحـى لـكَ حِصَّـةٌ والرَّوْنَقُ
لكَ مــن مواسـمِه ومـن أَعيـادِه ما تَحْسِـرُ الأَبصـارُ فيـه وتَـبْرَقُ
لا (الفرسُ) أُوتــوا مثَلـه يومً، ولا (بغدادُ) فـي ظـلِّ (الرشيد) و(جِـلَّق)
فَتْــحُ الممـالك، أَو قيـامُ (العِجْلِ)، أَو يومُ القبـور، أَو الزفـافُ المُـونِقُ؟
كــم مــوكبٍ تَتخَـايلُ الدنيـا بـه يُجْـلَى كما تُجْـلَى النجـومُ ويُنْسـقُ!
(فرعونُ) فيــه مـن الكتـائبِ مُقبِـلٌ كالسُّـحْبِ، قَـرْنُ الشمس منها مُفتِقُ
تَعْنــو لعزَّتِـه الوجـوه، ووجهـهُ للشـمسِ فـي الآفـاقِ عـانٍ مُطـرِقُ
آبتْ مــن السـفرِ البعيـدِ جـنودُه وأَتتْـه بــالفتحِ السـعيدِ الفَيْلَــقُ
ومَشـى الملوكُ مُصفَّـدِين، خـدودُهم نعـلٌ لفرعــونَ العظِيـم ونُمْـرُقُ
مملوكــــةٌ أَعنـــاقُهم ليمينـهِ يَـأْبَى فَيَضْـرِبُ، أَو يَمُـنُّ فَيُعتِـقُ
ونجيبـةٍ بيــن الطفولــةِ والصِّبـا عـذراءَ، تَشْـرَبُها القلـوبُ وتَعلَـقُ
كـان الزفـافُ إِليـكَ غايـةَ حَظِّهـا والحـظُّ إِن بلــغ النهايــةَ مُـوبِقُ
لافَيْــتَ أَعراسً، ولافَـتْ مَأْتَمًـا كالشـيخِ يَنْعَــمُ بالفتــاةِ وتُـزْهَقُ
فـي كـلِّ عــامٍ دُرَّةٌ تُلْقَـى بِـلا ثمـنٍ إِليــكَ، وحُــرَّةٌ لا تُصْـدَقُ
حَــوْلٌ تُســائِل فيـه كـلّ نجيبـةٍ سَـبقتْ إِليـكَ: متـى يحـولُ فتَلْحقُ؟
والمجـدُ عنــد الغانيــاتِ رَغيبـةٌ يُبْغَـى كمـا يُبْغَـى الجمـالُ ويُعْشَـقُ
إِن زوّجـوكَ بهــنّ فَهْـيَ عقيـدةٌ ومــن العقــائدِ مَـا يلَـبُّ ويَحْـمقُ
ما أَجـملَ الإِيمـانَ!! لـولا ضَلَّـةٌ فــي كــلِّ دِيـنٍ بالهدايـةِ تُلْصَـقُ
زُفَّــتْ إِلى ملـكِ الملـوكِ يَحُثُّهـا دِيـنٌ، ويَدْفعهــا هَــوًى وتَشَـوُّقُ
ولربَّمــا حَسَـدَتْ عليــكَ مَكانَهـا تِــربٌ تَمَسَّــحُ بـالعروس وتُحْـدِقُ
مَجْــلُوَّةٌ فـي الفُلْـكِ يَحـدو فُلْكَهـا بالشـاطئيْن مُزَغْــرِدٌ ومُصفِّــقُ
فــي مِهْرِجَـانٍ هَـزَّتْ الدنيـا بـه أَعطافَه، واختــالَ فيـه المشْـرقُ
فرعــونُ تحـتَ لوائِــه، وبَناتُـه يَجري بهـنّ عـلى السـفينِ الزَّوْرَقُ
حــتى إِذا بلغـتْ مواكبُهـا المَـدَى وجرى لغايتــه القضـاءُ الأَسْـبقُ
وكســا سـماءَ المِهرِجـانِ جلالـةً سـيفُ المنيـة وهـو صَلْـتٌ يـبرقُ
وتَلفَّتـتْ فـي اليَــمِّ كـلُّ سـفينةٍ وانثـال بـالوادي الجـموعُ وحـدّقوا
أَلقتْ إِليـكَ بنفســها ونفِيســها وأَتتكَ شــيِّقةً حواهــا شَــيِّقُ
خـلعَت عليــكَ حياءَهـا وحياتَهـا أَأَعـزُّ مـن هـذين شـيءٌ يُنفَـقُ؟
وإِذا تَنـاهى الحـبُّ واتفـقَ الفِـدى فـالروحُ فـي بـابِ الضحيَّـة أَلْيَـقُ
مـا العَــالمُ السُّــفلِيُّ إِلاّ طِينَــةٌ أَزليَّـةٌ فيـه تُضـيءُ وتَغسِــقُ
هـي فيـه للخِـصْبِ العميـمِ خـميرةٌ يَنْـدَى بمــا حملتْ إِليـه، ويَبثُـقُ
مـا كــان فيهـا للزيـادةِ مَـوْضِعٌ وإِلـى حماهــا النقـصُ لا يتطـرّقُ
مُنبثَّـةٌ فـي الأَرضِ، تَنتظـمُ الـثَّرى وتنـالُ مِمَّـا فـي السـماءِ، وتَعْلَـقُ
منهـا الحيـاةُ لن، ومنهـا ضِدُّهـا أَبــدًا نَعـودُ له، ومنهـا نُخْـلَقُ
والـزَّرعُ سُــنْبُلُه يطيــبُ، وحَبُّـه منه، فيخـرج ذ، وهــذا يفلَـقُ
وتَشـدُّ بيـتَ النحـلِ، فهـو مُطنَّـبٌ وتمــدُّ بيتَ النمـل، فهـو مـروَّقُ
وتظلُّ بيـن قـوى الحيـاةِ، جوائِلاً لا تســـتَقِرُّ، دوائِـلاً لا تُمْحَــقُ
هـي كِلْمَـةُ اللـه القديـرِ، ورُوحُـه في الكائنــات، وسـرُّه المسـتغلِقُ
فـي النجـم والقمـرين مظْهرُه، إِذا طلعَـتْ عـلى الدني، وسـاعةَ تَخفُقُ
والـذَّرُّ والصَّخَـراتُ مِمَّـا كَـوَّرَتْ والفيــلُ ممـا صَـوَّرَتْ، والخِـرْنِقُ
فتنـتْ عقــولَ الأَوليــن، فـأَلَّهوا مـن كـلّ شـيءٍ مـا يَـرُوع ويَخرُقُ
سـجَدوا لمخــلوق، وظنُّـوا خالقًـا مَـنْ ذا يُمَـيِّزُ فـي الظـلام ويَفْـرُقُ؟
دانــت (بآبيسَ) الرعيــةُ كلُّهــا مـن يسـتغلُّ الأَرضَ، أَو مـن يَعـزقُ
جاءُوا مـن المـرعى به يمشي، كما تمشــى وتَلْتَفِــتُ المهـاةُ وترْشـقُ
داجٍ كجــنح الليــل زان جبينــهُ وَضَــحٌ عليـه مـن الأَهلَّـة أَشْـرَقُ
العسـجد الوهّــاجُ وشْــيُ جلالِـه والـوردُ مَــوْطِئُ خُفِّـه، والـزَّنْبَقُ
ومـن العجـائِب بَعْـدَ طـولِ عبـادةٍ يُـؤتَى بـه حـوضَ الخـلودِ فيُغْـرَقُ
يا ليت شعري: هل أَضاعوا العهدَ، أَم حَـذِروا مـن الدنيـا عليه وأَشفقوا؟
قـومٌ وقــارُ الـدّين فـي أَخـلاقهم والشــعبُ مــا يَعتــاد أَو يتخَـلَّقُ
يَدْعُـون خـلفَ السِّـتر آلهـةً لهـم مـلأُوا النَّــدِيَّ جلالــةً، وتَـأَبّقوا
واسـتحجبوا الكُهّــانَ، هـذا مُبلـغٌ مـا يهتِفــون بـه، وذاك مُصـدِّقُ
لا يُسـأَلون إِذا جــرت أَلفــاظُهم مِنْ أَيـن للحجـر اللسـانُ الأَذلَـقُ؟
أَو كــيف تخـترق الغيـوبَ بهيمـةٌ فيما يَنـوب مـن الأُمـور ويَطْرُقُ؟
وإِذا همـو حَجُّـوا القبـورَ حسـبتهم وَفْـدَ (العتيقِ) بهـم تَـرَامَى الأَيْنُـقُ
يـأْتون (طيبةَ) بــالهَدِيِّ أَمــامَهم يغشـى المــدائنَ والقـرى ويُطَبِّـقُ
فـالبرُّ مشــدودُ الزَّواحـلِ مُحْـدَجٌ والبحـرُ ممــدودُ الشِّـرَاعِ مُوَسَّـقُ
حـتى إِذا ألْقَــوْا بهيكلهـا العصـا وَفَّـوا النـذورَ، وقَرَّبـو، واصَّدَّقـوا
وجَـرَتْ زوارقُ بــالحجيج، كأَنهـا رُقْـطٌ تَــدافعُ، أَو ســهامٌ تَمْـرُقُ
من شـاطئ فيـه الحيـاةُ لشـاطئ هـو مُضْجَــعٌ للسـابقين ومِـرفقُ
غرَبوا غروبَ الشمِس فيه، واستوى شـاهٌ ورُخٌّ فـي الــترابِ وبَيْـدقُ
حيثُ القبـورُ عـلى الفضـاءِ كأَنهـا قِطَعُ السحابِ، أَو السـرابُ الدَّيْسَـقُ
للحـقِّ فيــه جَوْلــةٌ، ولـه سَـنًا كالصبحِ مــن جَنَبَاتِهــا يَتَفَلَّـقُ
نزلـوا بهـا فمشـى الملـوكُ كرامـةً وجثــا المُــدِلُّ بمالــه والمُمْلــقُ
ضــاقت بهــم عَرَصاتُه، فكأَنمـا رَدَّتْ ودائعَهـــا الفــلاةُ الفَيْهَــقُ
وتَنــادم الأَحيــاءُ والمــوتى بهـا فكـأَنهم فــي الدهـر لـم يتفرّقـوا
أَصـلُ الحضـارةِ فـي صَعيـدِكَ ثابتٌ ونَباتُهـا حَسَــنٌ عليــك مُخــلَّقُ
وُلِـدَتْ، فكـنتَ المهـدَ، ثـم ترعرعَتْ فأَظلَّهـا منــكَ الحَــفِيُّ المُشْـفِقُ
مـلأَتْ ديــارَك حكمـةً، مأْثورُهـا في الصخـر والـبَرْدِي الكـريمِ مُنَبَّقُ
وَبَنَـتْ بيـوتَ العلـم باذخـةَ الـذُّرَى يسـعى لهــن مُغَــرِّبٌ ومُشَـرِّقُ
واســتحدثتْ دِينً، فكـان فضـائلاً وبِنـاءَ أَخــلاقٍ يطـول وَيشـهَقُ
مَهَــدَ الســبيلَ لكــلِّ دِيـنٍ بعـدَه كالمسـك رَيَّــاه بــأُخرى تُفْتَـقُ
يدعــو إِلـى بِـرٍّ، ويـرفع صالِحًـا ويَعــاف مـا هـو للمـروءة مُخْـلِقُ
للنـاسِ مــن أَسـرارِه مـا عُلِّمـوا ولشُـعْبةِ الكَهَنـوت مـا هـو أَعْمـقُ
فيــه محــلٍّ للأَقــانيم العُــلى ولجــامع التوحــيدِ فيــه تَعَلُّــقُ
تـابوتُ موســى; لا تـزال جلالـةٌ تبــدو عليــك لـه، ورَيَّـا تُنْشَـقُ
وجمـالُ يوسُــفَ; لا يـزال لـواؤُهُ حَــوْلَيك فـي أُفُـق الجـلال يُـرنَّقُ
ودمـوعُ إِخوتــه; رســائلُ توبـةٍ مَسْـــطُورُهُنّ بشــاطئيْك مُنمَّــقُ
وصلاةُ مـريم; فـوقَ زرعك لم يزل يَزكــو لذكراهـا النبـات ويَسـمُقُ
وخُـطَى المسـيح عليـك روحًا طاهرًا بركــاتُ ربِّـك، والنعيـمُ الغَيْـدَقُ
وودائــعُ (الفاروقِ) عنــدك، دينـه ولـــواؤهُ، وبيانُــه، والمنطِــقُ
بعـث الصحابـةَ يَحـملون مـن الهدى والحـقِّ مـا يُحْيي العقـولَ ويَفتـقُ
فَتْــحُ الفتـوح، مـن الملائـك رَزْدَق فيــه، ومن (أَصحاب بـدرٍ) رَزْدَقُ
يبنــون للـــه الكنانــةَ بالقنــا واللــهُ مـن حـول البنـاءِ مُـوَفِّقُ
أَحــلاسُ خــيل، بَيْـدَ أَن حسامَهم فـي السلم مـن حـذرِ الحوادثِ مُقْلَقُ
تُطوَى البـلادُ لهـم، ويُنْجِـدُ جيشَهم جـيشٌ من الأَخـلاقِ غـازٍ مُـورِقُ
فـي الحـقِّ سُـلَّ وفيـه أُغْمِد سيفُهم سـيفُ الكريم مـن الجَهالة يَفْـرَقُ
والفتــحُ بَغْــيٌ لا يُهَـوِّن وَقْعَـه إِلا العفيــفُ حسـامُه، المــترفِّقُ
ما كــانت "الفسطاطُ" إِلا حائطًــا يـأْوي الضعيـفُ لركنه والمُـرْهَقُ
وبه تلوذُ الطـيرُ فـي طلـبِ الكرَى ويبيتُ "قيصرُ" وهْـ منـه مُـؤَرَّقُ
(عَمْرٌو) عـلى شطبِ الحصير مُعصَّبٌ بقـــلادةِ اللــه العَـلِيِّ مُطَــوَّقُ
يدعــو لـه "الحاخامُ" فـي صلواتـه (موسى)، ويسـأَل فيه (عيسى) البَطْرَقُ
يا نيـلُ، أَنـتَ بطيب ما نَعَتَ "الهدى" وبمدْحـةِ (التوراةِ) أَحْــرَى أَخْـلَقُ
وإِليـك يُهْـدِي الحـمدَ خَلْقٌ حازهم كـنَفٌ عـلى مَـرِّ الدهـورِ مُـرَهَّقُ
كَـنَفٌ "كَمَعْنٍ"، أَو كسـاحة "حاتم" خَـلْقٌ يُوَدِّعُــه، وخَــلْقٌ يَطْـرُقُ
وعليـك تُجـلَى مـنَ مَصونات النُّهَى خُـودٌ، عـرائسُ، خِـدْرُهنّ المُهـرَقُ
الــدرُّ فـــي لَبــاتهنّ مُنَظَّــمٌ والطيـبُ فــي حَـبراتهنّ مُرَقْـرَقُ
لـي فيكَ مـدْحٌ ليس فيـه تكـلُّفٌ أَمـلاه حُــبٌّ ليس فيــه تَمَلُّــقُ
ممـا يُحمِّلنـا الهـوى لـكَ أَفْـرُخٌ سـنَطير عنه، وهـي عنـدك تُرزَقُ
تَهْفُو إِليهــم في الـتراب قلوبُنـا وتكــاد فيــه بغـير عِـرْقٍ تَخْـفُقُ
تُرْجَـى لهــم، واللـهُ جـلَّ جلالُـه منــا ومنــك بهــم أَبَـرُّ وأَرفـقُ
فــاحفظ ودائـعَك التي استُودِعتْهَا أَنــت الـوفيُّ إِذا اؤتمنـتَ الأَصـدقُ
لـلأَرض يـومٌ، والسـماءِ قيامـةٌ وقيامـةُ "الوادي" غــداةَ تحــلّقُ
[/size]